ريم

قصة عن النجوم التي لن تنطفئ ...

كان صباحا شتويا حين وُلدت ريم، ابنة أخي الصغرى، ومنذ يومها الأول، كانت تحمل على كاهلها حملا ثقيلا: مرض وراثي قاتل قرر أن يكون رفيق طفولتها، يعاند خطواتها الصغيرة، التي بالكاد بدأت تتعلم المشي.

في البداية، كنا نلاحظ ذلك الإصرار الغريب عند طلب الطعام، كانت تأكل بشهية كبيرة، تلتهم قضمة تلو الأخرى دون توقف، وكأنها تسابق الزمن لتملأ فراغا لا يُسَدّْ.

استغرب الجميع من هذه الشهية التي لا تنتهي، وبدأت الهمسات تنتشر من حولها:

لماذا تأكل بهذا الشكل؟

هل هذا طبيعي لطفلة في عمرها؟

وفي كثير من المواقف التي لم تخلو من سوء الفهم، كنا ننهرها:

لما تأكلين كل هذا، ألا تشبعين..؟

كانت تنظر إلينا بعينيها البريئتين، ثم تواصل الأكل بصمت، كأنها تقول: أنا جائعة.

لم ندرك حينها أن هذا الجوع لم يكن جوعا عاديا، بل كان جسدها الصغير يصرخ طلبا للمساعدة. لم يكن الطعام يمنحها الطاقة التي تحتاجها، كان جسدها يستهلك كل شيء دون أن يحتفظ بأي فائدة، ويتركها في حالة جوع دائم.

عرفنا لاحقا أن الطفلة لم تكن جشعة كما ظننا، بل كانت ضحية لجسد ينخره المرض ببطئ، كل مرة كانت تناولت فيها الطعام بلهفة، كانت في الحقيقة تحاول البقاء على قيد الحياة وحسب، تحاول أن تسد ذلك الفراغ الذي لم يكن بوسعنا أن نراه.

حاولنا جاهدين لمعرفة هذا الخلل، وسبب هذه الشهية التي لا تنتهي، كانت رحلة المستشفيات تفسر لنا كل شيء، رغم الإنكار المستمر ورفض تام لسماع الحقيقة. أصوات الأجهزة الطبية، روائح المعقمات، همسات الممرضات، كلها أصبحت جزءا من حياتنا. كنا ننتقل من طبيب إلى آخر، من مستشفى إلى آخر، وكان كل طبيب يحمل لنا تشخيصا جديدا، غير مفهوم، لكننا لم نتوقف أبدا عن البحث ..

أخيرا أدركنا أن ريم لم تكن تطلب طعامًا فقط، بل كانت تطلب الحياة.

بدأت رحلتنا معها في المستشفيات، تلك الأماكن التي لم نعد نميز فيها الليل من النهار. كنا ننتقل من طبيب إلى آخر، ومن مستشفى إلى آخر، وغالبًا ما تكون الرحلات إلى مدن أخرى، باحثين عن علاج جديد أو تشخيص أفضل. وكانت كل رحلة تبدأ بأمل وتنتهي بخيبة كبيرة. 

أصوات الأجهزة الطبية كانت تلاحقنا حتى في المنام، والفواتير المرهقة كانت تتكدس بالشكل الذي أصبح من المستحيل تسديدها.

محمد، أخي والظل المرافق لريم في كل مراحل معاناتها. لم يفارقها أبدًا، رغم اعتراضاتنا أحيانًا بسبب ثقل الحمل. 

أتذكر يومًا حينما انفجرت غاضبًا وقلت له:

لما كل هذا؟ لماذا لا يتحمل والدها بعض الأعباء؟

صمت للحظة، وأجاب بسذاجة نادرة:

"ريم عزيزة علي ونبغي نعاونها"

تلك الكلمات ظلت تلاحقني لأيام ولم أستطع أن تخطاها. أدركت أن محمد لم يكن يفعل ذلك لأنه مضطر، بل لأنه يرى في مساعدة ريم مسؤولية متخلى عنها.

كان المرض أشبه بوحش ينهش جسدها الصغير، يفرض علينا أن نكون دائمًا في حالة تأهب. المستشفيات أصبحت بيتنا الثاني. كنا نقضي ساعات طويلة في الانتظار، نراقب المارة.

"مرض مزمن" و"أدوية مدى الحياة" الخ .. أصبحت عبارات مألوفة.

في البداية كان شعر ريم شديد السواد ولامعا. لكن المرض بدأ يترك آثاره شيئًا فشيئًا. لاحظنا أن اللون بدأ يتغير، يفقد بريقه، ويأخذ لونا باهتا كأنه يعكس تعب جسدها الصغير.

في كل مرة كنا نلاحظ تغييرًا جديدًا، كنا نضع أيدينا على قلوبنا، نتساءل بقلق: ما الذي سيأخذه المرض هذه المرة؟ كان شعرها يخبرنا بقصة لا نريد أن نسمعها، قصة جسد يخوض معركة شرسة، يحارب بأضعف أسلحته، ويرفض الاستسلام.

كانت ريم تبتسم رغم كل شيء. عندما كانت تستفيق من جلسات العلاج الطويلة، كانت تطلب أن نقرأ لها قصصا ما للتسلية. كنا نرى في عينيها رغبة لا يمكن تفسيرها، كأنها كانت تحلم بعالم خال من الألم، حيث يمكنها أن تجري وتضحك دون قيود.

اضطررنا لبيع اغراض ثمينة: ذهب والدة ريم، بعض من أثاث المنزل، ..  لتسديد جزء من الفواتير المرهقة، إذ كان الألم يتجدد مع كل رحلة إلى مستشفى في مدينة بعيدة.

 ساعات السفر الطويلة كانت تُنهكها، لكن ريم كانت تصمد دائمًا، تنظر من نافذة الحافلة وتبتسم  وكأنها تخفف عنا عناء ما ينتظرنا .. 

مع مرور الوقت، بدأ المرض يتسلل ببطء إلى حواس ريم. كانت تحب الرسم، وغالبًا ما كنا نجدها جالسة ترسم نجوما صغيرة.

ذات يوم لاحظنا أنها تقترب كثيرا من الورقة، كأنها تحاول أن ترى التفاصيل بصعوبة. 

انقبضت قلوبنا، وأخذناها لطبيب العيون هذه المرة ..  الذي أخبرنا أن المرض بدأ يؤثر على بصرها.

بعد أيام، جاء التشخيص: "النظر بدأ يتدهور." ويجب ان ترتدي نظارات لتصحيح النظر ..

عندما أخبرناها بذلك، نظرت الينا وقالت:

هل سأفقد البصر؟ ولن أرسم النجوم ثانية ..؟
إذ وحتى في أصعب لحظات المرض، كانت تصر على أن تكون طفلة.

كيف أجيب عن هذا السؤال؟ شعرت أن الكلمات تهرب مني. 

كنت أريد أن أقول لها إن النجوم ستبقى دائماً هناك، لكنها قد لا تستطيع رؤيتها مجددا. 

بدلاً من ذلك، أمسكت بيدها وقلت: لا، النجوم معك دائماً.

ربما لم تكن تسألني لتسمع الحقيقة، بل لتطمئن أننا سنظل معها .. إلى نهاية الرحلة. 

مدونة نعيم
مدونة نعيم