أرض تحتضن الجميع

يقولون إن الإنسان لا يمكن أن يكون له أكثر من وطن واحد، وإن الانتماء مرتبط بالمكان الذي وُلد فيه وتربى على أرضه. لكنني اكتشفت وعلى مدار السنوات، أن الوطن ليس مجرد حدود مرسومة على الخريطة، بل شعور يتسرب إلى روحك بهدوء، دون أن تفكر متى حدث ذلك.
لم أستيقظ يوما على إعلان رسمي من الديوان الملكي يخبرني أنني أصبحت واحدا من السعوديين. كل شيء بدأ في زمن كانت فيه الإنترنت أكثر بساطة، عندما كانت المنتديات مثل سوالف سوفت تجمع الحالمين تحت سقف واحد. هناك، درست، تعلمت، وخطوت أولى خطواتي دون أن أدري أن الطريق سيقودني إلى حيث أقف اليوم.
مرت السنوات، تتابعت المشاريع، واستمرت الصداقات. التقيت بالسعوديين، أصدقائي من صنعوا سنواتي الأجمل، كنا معا في كل اجتماع، في كل فكرة، في كل نقاش طويل. بعضهم زارني في المغرب، وبعضهم التقيتهم في دبي ومدن أخرى. جلسنا في مقاهٍ تطل على البحر، نتحدث عن العمل تارة، وعن الحياة تارة أخرى، وكأن المسافات لم تكن موجودة يوما، وما بدأ كاحتمالات فحسب، أصبح واقعا، وما كان مجرد صداقة، صار أخوّة حقيقية.
حتى في احتفالاتهم الوطنية، كنت حاضرا. كنت أستفيد من العطلة مثلهم، أحتفل كما يحتفلون، حتى أصبحت هذه الأيام محفورة في تقويمي السنوي، وكأنها تخصني بقدر ما تخصهم.
وعندما زرت السعودية لأول مرة، كنت أظن أنني سأحتاج إلى التأقلم، أنني سأحتاج وقتا لأفهم هذه الأرض وأهلها، لكن الحقيقة كانت مختلفة. لم يُتح لي الوقت لأشعر أنني غريب.
في أماكن أخرى، تحتاج إلى أوراق رسمية، تأشيرات، تحقيقات قصيرة عند قسم الجوازات، وربما نظرات متفحصة من المسؤول قبل أن يقرر إن كنت مرحبا بك أم لا. وعندما تدخل البلاد أخيرا، ثمة إجراءات، وحدود تفصل بينك وبين الناس والمكان.
أما في السعودية، فلا تحتاج إلى أن تكون قريبا جدّا ليعاملك أحدهم كأخ. لم يكن أحد يسألني من أين أتيت قبل أن يسألني: "كيف حالك؟ تعال اجلس هنا".
في هذه الأرض، أنت لا تطلب الطعام، بل يُطلب لك، ولا تفكر في الدفع، لأن هناك شخصا سبقك إلى ذلك دون أن تدري، فقط لأنه قرر أنك ستكون في ضيافته اليوم. حاولت أن أسبق أصدقائي ذات مرة، أن أدفع سرا قبل أن نجلس، لكن الكاشير نظر إليّ وابتسم قائلا: "حساب هذه الطاولة قد تم تسديده مسبقا".
هكذا وجدت نفسي محاصرا بنوع من الكرم لا يمكنك تفسيره، ولا يمكنك تكراره، كرم لا يُقدّم وفق بروتوكولات، بل يأتيك عفويا، صادقا، جارفا كسيل لا يمكن مقاومته.
مع مرور الوقت، أدركت أنني لم أكن وحدي في هذا الشعور. وجدت رجال أعمال، مغتربين، عمالا، عائلات لجأت إلى السعودية بحثا عن فرصة، عن حياة أفضل، وكلهم يقولون الشيء ذاته: "لقد وصلنا إلى هنا غرباء، لكننا لم نشعر بالغربة يوما".
اليوم، وأنا أرى أصدقائي يحتفلون بيوم التأسيس، أدرك أن ما يجعل هذا البلد مختلفا ليس فقط التاريخ العريق، ولا حجم البلد، ولا موارده. بل شيء أعمق من ذلك: الأرض التي فتحت قلبها واحتضنت كل من مرّ بها، قبل أن تفتح الحدود.
كل عام والسعودية بخير، كل عام وأصدقائي السعوديون بخير. وكل عام وأنا ممتن لوطن لم يسألني من أين أتيت، بل رحب بي كما لو أن اسمي كان مكتوبا في سجلاته قبل أن أولد.
