حكاية الدوري ..

عن القصص التي لا تكتب في Basecamp ..

مقدمة ..

هذه التدوينة عنّا، نحن الذين قرّرنا أن نكمل… رغم أن كل شيء فينا كان يصرخ: لا نستطيع ..
عن أسابيع طويلة قضيناها في مشروع لم نعرف حجمه الحقيقي… إلا حين جلسنا نعمل عليه، لنكتشف أننا لن نبدأ من الصفر، بل من تحت الصفر بقليل ,,

عن لحظات كنّا نُمسك فيها العمل بأطراف أصابعنا .. بين رغبة واضحة في إفلاته، وشعور غامض من الداخل يهمس لنا: "لن نستسلم ..,”

لم يكن لدينا تفسير لكل شيء، لكن قررنا أن نكمل الطريق، وإن كنا سنفشل، فسنفعل ذلك بطريقة احتفالية ..


كنا ثلاثة:
رؤى، علاء، وأنا .. أسماء صغيرة…
ندير لوحة تحكم لا ينقصها شيء… سوى أن تكون مقسمة لعدة مشاريع متفرقة ,.,

الواجهة البرمجية API كانت تعمل حتى الظهر… ثم تأخذ قيلولة لا نعرف متى ستنتهي ..
أما تصاميم Figma، فكانت تتبدّل من إصدار لآخر بسرعة جنونية .. 

نغير زرا في التاسعة صباحا .. ثم نحذفه في الواحدة ظهرا، لنعيده مجددا قبل منتصف الليل… لأننا سنرجع للنسخة الأولى من التصميم ..

لا أتذكر كم أسبوعا متواصلا استغرقناه في العمل .. الأيام صارت تشبه بعضها،… والنوم كان مجرد استراحة قصيرة بينها  //

وفي كل مرة كنا نعتقد أننا قطعنا شوطا، يظهر قسم جديد يُعيد تعريف مفاهمينا عن الإنجاز ..
ننفّذ، ثم نعيد التنفيذ، ثم نعود للبداية… كأن كل تقدم كان فقط بروفة لما سيأتي بعدها ..

مرت علينا أوقات، فقدنا فيها الإحساس بالزمن .. صرنا نشك أننا نعيش داخل فيلم وثائقي منخفض الميزانية، والمخرج ببساطة يستمتع بتصوير كل لحظة… ونسي أن يصرخ اقطع ..


رؤى كانت تكتب الكود ليلا,, كانت تفهم كل شيء من النظرة الأولى، وتكمل من حيث توقف الفريق، لم تكن تشتكي، لا في دردشة ولا في اجتماع، ورغم أن صوتها المتعب كان يخونها أحيانا، إلا أنها كانت تُصرّ على أن النوم رفاهية يمكن تأجيلها ..

علاء كذلك، كان يسهر على الجانب الآخر من الليل، كانت كل المهام الثقيلة… تلك التي يتظاهر الجميع بعدم رؤيتها .. تجد طريقها إليه في النهاية ..

أما أنا… فكنت أستيقظ في الثالثة فجرا، بحثا عن رشفة ماء…أو شيء يُؤكل .. أفتح GitHub بعين مترددة، فقط بدافع الفضول .. فأجد تحديثاتهما تتلألأ كالنجوم… ثم أغلقه سريعا كي لا أشعر بالذنب .. أو كي لا أقنع نفسي أن شرب الماء عند الثالثة فجرا يُعتبر مساهمة في المشروع ..

قررنا أن نُسند مهمة المزامنة مع بيئة الإنتاج ,, أي ما سيراه المستخدمون الحقيقيون على شاشاتهم ..  لرؤى. ذلك الزر الذي لا يضغطه أحد دون أن يترك وصية على قبره ..  كان في داخلنا رغبة أن نعطيها المساحة لتكون في الواجهة، فتركنا لها هذه المهمة ..

إن سارت الأمور بخير، سنصفق … وإن حدث عطل ما، سنسميها تجربة، ونتقاسم بطولة مشتركة في فيلم رعب تقني ,,


كنا نبدأ يومنا باجتماع صباحي .. على الساعة 8:00 صباحا بتوقيت غرينتش .. عمار يلقي خطابا تحفيزيا قصيرا ونحن نُومئ برؤوسنا ببطء… كما لو أننا فهمنا كل شيء .. ثم بوجه حماسي ونبرة متفائلة، يبدأ حديثا عن تفاصيل جديدة وصلت من فريق التصميم أو المنتج .. 

كنا نعمل جنبا إلى جنب مع فريق جاكو، نكتب مستندات، نضيف توضيحات، ونرد على استفسارات لا تنتهي..  وهم هناك، دائما، بنفس الوتيرة، بنفس اليقظة، وكأن أجسادهم لا تؤمن بالتعب، ولا تعترف بمفهوم النوم، هم كما وصفهم أحدنا: خط إنتاج لا يتوقف.

كنا نمزح فيما بيننا أحيانا متسائلين: "هل غربت الشمس عندهم؟" لكن الحقيقة، أننا كنا نحترم ذلك الاجتهاد، ومع الوقت… كوّنا صداقات مع بعضهم ., إذ ورغم الحواجز، صرنا نعرف من يضحك من ردودنا، ومن يرسل رسالة وهو غاضب،ومن ينسى أننا بشر، ولسنا روبوتات تجلس خلف الشاشات.

وكنا نلتقط أنفاسنا، فقط حين ينامون، ننظر لبعضنا البعض، ثم نخرج من تطبيق الدردشة الصيني lark بسرعة البرق، كأننا سجناء ينتظرون لحظة الإفراج ..

لكن وسط كل هذه الاجتماعات المتداخلة، وتنبيهات التطبيقات  .. كنا أحيانا نحضر اجتماع الصباح بعين واحدة مفتوحة، لم نكن دوما مستعدين للكلام، لكن كانت تكفينا ابتسامة عابرة من عمار، أو إيموجي ساخر من أحد أعضاء فريق جاكو  ,, لنعود فجأة إلى الحياة ,, وتشتعل فينا شرارة الحماس من جديد ,,


أحيانا كانت اجتماعنا نحن الثلاثة عبارة عن جلسات امتعاض جماعي .. نفتح basecamp، نراجع المهام، ثم يتمتم أحدنا: "لا يمكن أن ننتهي من كل هذا بحلول غشت ..",

ثم، وفي اللحظة التي يخيّم فيها الصمت، تقول رؤى، بصوتها الهادئ دائما:

طيب… لنحاول..

نسكت قليلا .. ثم نقول: "حسنا، فلنبدأ من جديد…" كأننا لم نعلن الاستسلام قبل دقائق ..


لم يكن بيننا من يقول: "هذا ليس عملي" أو "من وضع هذه الفوضى في طريقي؟" بل كثيرا ما كنا نطفئ الحرائق التي لم نشعلها بأنفسنا … لأننا آمنا أن الفريق يجب أن يُنقذ بعضه البعض ,, 

كان يكفي أن نرى أحدنا يتقدّم، فنلحق به ..

لم يكن في فريقنا الصغير قائد .. لم نحتج إلى واحد .. كنا جميعا قادة .. نتشارك المهام، نتبادلها، نسخر من بعضها أحيانا… وندرك دائما أنها ستُنجز ,,


ذات يوم، كنت في المصحة ..  أتنقّل بين غرفة والدتي وغرفة أخي، الذي أصيب بالتهاب لا نعرف مصدره .. كان يوما ثقيلا، لا يشبه أي يوم عمل آخر ,, وكان هناك اجتماع مع فريق المنتج،  فكرت للحظة أن أعتذر .. لكنني شعرت أن الاعتذار لن يضيف شيئا… فحضرت الاجتماع… بكاميرا مطفأة، وقلب لا يشبهني ..

وفي صبيحة أحد الأيام، أيام قليلة قبل الإطلاق الأول .. كنت أتنقل بين المنزل والمستشفى كالعادة، أجهز طعاما منزليا، وفي الوقت نفسه أحاول أن أعمل… ففقدت السيطرة ..  ثم… أرسلت لعمار ping .. 

المعذرة لن أستطيع التواجد اليوم، أخي في المستشفى، ووالدتي كذلك. وأنا أعمل… وأعد لهما الطعام في نفس الوقت

رد علي عمار بجملة لن أنساها أبدا:

أغلق اللابتوب …و اذهب لرعاية أهلك، سنكون بانتظارك عندما ترجع .. 

قرأت الجملة مرتين… ثم، من دون أن أشعر، خانتني عيناي للحظة ..  وكانت تلك الخيانة… أصدق ما حدث ذلك اليوم ..

بعدها كتبت لفريقي الصغير: سأغيب عنكما لبعض الوقت… لدي ظرف طارئ.. لم أشرح كامل التفاصيل كما هي .. لكنني وجدت ما يكفي من النور في رد عفوي من رؤى، ودعما وثقة من علاء…


رجعت، ومرت الأيام .. ثم قبيل يوم واحد من الإطلاق… وقبل أن يصل وزير الرياضة إلى الحفل، قرر فريق التصميم أن يُضيف صفحة جديدة، صفحة مليئة بالحركات، والانتقالات، وال animations ..

تمت إضافتنا للمهمة من قبل أبو كريم .. اطلعنا على التفاصيل، ثم وقفنا أمام الشاشة، وكتبنا: "لا يمكن إنجاز هذه الصفحة في يوم واحد" ..  قلنا ذلك، ثم فتحنا المحرر، وبدأنا بكتابة أول سطر كأننا سنحضر وجبتنا الأخيرة قبل الإعدام ,, 

وبينما كنا نمرّر الردود في basecamp لنفهم القصة والسياق ,, وقعت أعيننا على رسالة من أحد الزملاء لفريق التصميم يقول فيها:

نريد فريق التقنية أن يبكي

كنا سهرانين من الليلة السابقة ,, نعدّل، نصلح الأعطاب ونرفع، استعدادا للإطلاق الأول .. كنا نرتب البيت قبل وصول الضيوف الكبار .. زميلنا كان يمزح فقط، إذ طالما ضحكنا على تعليقاته الساخرة ..

لكن التصميم؟ كان فعلا يْبَكِّي ..

الصفحة التي أُنجزت قبل الحفل بساعات: https://landing-takeoff.vercel.app/

جرّبها من متصفح مكتبي أو أيباد ..  وإن لم تبكِ… على الأقل ستفهم لماذا كنا نحدّث GitHub بيد، ونمسح دموعنا باليد الأخرى … 


في نهاية هذه التدوينة، يُفترض أن أكتب شيئا يلخّص التجربة… لكن لا شيء يمكن تلخيصه حينما تكون الحكاية عن الناس، لا عن المهام .. حينما تكون القصة عن تلك اللحظات التي لا تدوّن في basecamp، لكنها تبقى محفورة في القلب،

لذلك فالقصة ليست عن الدوري ... بل عن التعب الذي تقاسمناه دون أن نقول: نحن تعبنا. عن رؤى التي واصلت رغم قلة النوم، وعن علاء الذي حمل ما تهرّب منه الجميع، وعن يد خفية كانت تسندنا جميعا كلما تعبنا ..


لهذا أكتب الآن .. لأوثق التجربة ,,  وإن لم أُحسن قولها من قبل، دعوني أقولها الآن… بكامل الامتنان، وشيء من الصدق الذي يُشبهني دائما في لحظات الشكر … 

شكرا رؤى … علاء… كنتما الضوء حين بدا كل شيء رماديا ..
شكرا عمار، أبو كريم، علي…
شكرا فريق الجودة، شهد، فريق النشر…

شكرا إبراهيم ,, لأننا…
وفي أكثر لحظاتنا إنهاكا…
ضَحِكنا، ونحن على وشك البكاء ..

مدونة نعيم
مدونة نعيم

ممم