رحلتي إلى شتاء ثمانية
لم يكن من المفترض أن تكون هذه الرحلة مليئة بالمواقف الغريبة، لكن الرياض كعادتها، قررت أن تقدم لي تجربة استثنائية لا تشبه غيرها.

وصلت إلى مطار الرياض قادما من البحرين، وبينما كانت الطائرة تقترب من المدرج، بدأت أُهيئ نفسي للحظة النزول. إذ لم أكن أعلم أن المغامرة ستبدأ قبل أن أغادر بوابات المطار.
عندما اقتربت من قسم الجوازات، ظهر أمامي شاب يبدو أنه المسؤول عن تنظيم الصفوف. بنظرة خاطفة، قرر أنني أستحق بعض الامتيازات:
"تفضل يا طويل العمر، مع ذوي الاحتياجات الخاصة".
تجمدت مكاني. نظرت خلفي بحثا عن شخص يستحق هذا اللقب، لكن لم يكن هناك أحد سواي. وكنت أنا المقصود.
لم أجادل. فليس كل يوم تُمنح فرصة الدخول إلى عالم يمر فيه الناس بدون صفوف طويلة ولا تفتيش إضافي. تقدمت بهدوء، محاولا أن أبدو وكأنني أنتمي إلى هذه الفئة فعلا.
ربما يكون الموظف قد أخطأ في تصنيفي، أو ربما رأى في وجهي ملامح الإرهاق التي تُصنّف تلقائيا ضمن فئة المستحقين للمرور السريع. على أي حال، شكرته بحرارة وأنا أعيد استلام جواز سفري.
قبل مغادرة المطار، تذكرت أنني بحاجة إلى شريحة، وقفت أمام شركة للاتصالات، أراجع خطواتي الذهنية: جواز السفر معي، حقيبتي الصغيرة بجانبي. كل شيء تحت السيطرة، فجأة ظهر شاب هندي من العدم.
وقف بجانبي بزاوية غريبة، كأنه يقيس المسافة بيننا وبين الكاونتر. ثم بحركة خفيفة، تسلل أمامي وكأنني غير مرئي.
ترددت للحظة. هل أقول له شيئا؟ هل أستعيد دوري؟ لكنني تذكرت أنني ضيف في السعودية، تقبلت الأمر وكأنها خسارة في مباراة ودية. قد تكون هذه فرصته للفوز، وأنا لست مستعدا للقتال اليوم.
كان هناك شخص واحد قبلنا، وتصورنا جميعا أننا سننتهي في أقل من ثلاث دقائق.
"هل هذه الشريحة 5G؟".
"هل تغطي جميع المناطق؟".
"ماذا لو سافرت إلى البر؟".
"هل يمكنني ترحيل الرصيد؟".
كل سؤال كان يُلقى ببطء وبإحساس مَن لديه وقت العالم كله، بينما أنا في الخلف، أتحول تدريجيا إلى هيكل عظمي.
في النهاية، وبعد أن شرح له الموظف كل حزمة متوفرة منذ تأسيس الشركة، نظر إليه الرجل وقال:
"سآخذ أرخص باقة".
لم أعرف هل أبكي أم أعزي موظف شركة الاتصالات.
بعد الانتظار الطويل للحصول على الشريحة، قررت أن أكافئ نفسي بوجبة سريعة. الجميع نصحني بالبيك. لم أكن أعرف الكثير عنه سوى أنه علامة فارقة في عالم الوجبات السريعة في السعودية، فقلت لنفسي: لم لا؟
طلبت وجبة دجاج، وبصراحة، لم أشعر أنني أتناول وجبة سريعة، كان المذاق وكأن شخصا ما قرر أن يضع كل خبرته وحبه للحياة في تلك الوجبة.
البيك كان رخيصا، سريعا، ولذيذا، تماما مثل القرارات التي لا تفكر فيها كثيرا لكنها تنتهي دائما بشكل مثالي.
خرجت من المطعم وأنا أشعر وكأنني اكتشفت كنزا حقيقيا، وفكرت لم لا يتم تصدير "البيك" إلى باقي الدول العربية.
كنت متعبا بما يكفي لدرجة أن فكرة فتح الهاتف وإدخال الشريحة بدت وكأنها مشروع يحتاج إلى مجهود كبير.
لحسن الحظ، تذكرت أن مطار الرياض يوفر إنترنت مجاني. فتحت الهاتف، اتصلت بالشبكة وكأنني سأتنفس الأوكسجين لأول مرة.
راسلت السائق الذي من المفترض أن يقلني إلى الفندق:
"مرحبا، لقد وصلت، لكنني لا أزال داخل المطار".
رد بسرعة: "أنا بالخارج، متى بتطلع؟".
نظرت إلى الحقيبة بجانبي وإلى طابور جديد بدأ يتشكل عند باب الخروج.
كتبت: "خلال خمس دقائق".
كنت أعلم جيدا أن هذه الدقائق قد تطول أكثر من اللازم، لا زلت أنتظر، وأراقب الأطفال وهم يواصلون تسلق الكراسي.
مشهد العمالة الآسيوية في مطار الرياض يستحق برنامجا وثائقيا، البعض منهم بدا كأنه يرى المطار لأول مرة، بينما راح آخرون يركضون في كل اتجاه وكأنهم يبحثون عن كنز ما.
وصلت أخيرا إلى الفندق. مبنى شاهق مكون من 20 طابقا، وقفت أمام موظف الاستقبال، نومي خفيف، وأحتاج غرفة في الطابق الأعلى، لا جيران، ولا أقدام تطرق الأرضية فوق رأسي.
"أريد غرفة هادئة، لو تكرمت".
ابتسم الموظف وقال: "على راسي، بس لو صحيت بكير بكرة، ترا بيكون بسبب فوز الأهلي".
نظرت إليه بحذر: "هل تحب الأهلي؟".
ضحك وقال بفخر: "أنا أهلاوي حتى الموت".
في تلك اللحظة، تذكرت أنني جلبت قميص النصر في رحلتي من البحرين، حمدت الله أنني لم أرتده ذلك اليوم. يبدو أنني نجوت من مشادة رياضية غير ضرورية كادت أن تفسد علاقتي بالفندق.
أنهيت إجراءات التسجيل في دقائق، وعندما أعاد لي موظف الاستقبال جواز سفري، أمسكه بكلتا يديه، وانحنى قليلا وهو يقدمه لي باحترام شديد.
شعرت أنني رأيت هذا المشهد من قبل، نعم، شاهدته في أحد برامج خواطر عن "كوكب اليابان" التي كانت تُعرض على التلفزيون السعودي.
"شكرا جزيلا"، قلت له بنفس الأسلوب، محاولا أن أبدو لائقا بقدر الاحترام الذي تلقيته.
في تلك الأثناء، عدت للاتصال بأنترنت الفندق. كان لابد من أن أرسل رسالة لتغريد. أردت أن أطمئنها أنني وصلت بسلام.
كتبت بسرعة: "لقد وصلت الفندق، كل شيء تمام".
ردت فورا: "الحمد لله على سلامتك، ليلة سعيدة لك".
ابتسمت. لا يمكن أن تكون هذه الحفاوة وهذه التفاصيل الصغيرة إلا في السعودية.
ما إن دخلت الغرفة، حتى بدأت الجولة التفقدية المعهودة، تلك التي يقوم بها الجميع دون الاعتراف بها. أول ما لفت انتباهي كانت علب الشامبو وقطع الصابون الصغيرة المرتبة بعناية على رفوف الحمام.
لم أفكر كثيرا، وضعت كل شيء في الحقيبة قبل أن أستخدمها، حتى لو بقيت لليلة واحدة فقط، فإنني سأغادر ومعي تذكار يخلد مروري بهذا الفندق.
على الطاولة، وُضعت علب صغيرة مليئة بالمكسرات والحلويات، جلست أتأملها للحظات: هل أتناولها الآن أم أدخرها للغد؟ في النهاية، قررت أن المكسرات لن تنتظر، فتناولتها قطعة قطعة. بعد أن التهمت كل ما في العلبة، نظرت إلى الغلاف الفارغ. لم أرغب في رميه. كان أنيقا، ومن النوع الذي يُشعرك أن رميه قد يكون تصرفا متسرعا.
فتحت حقيبتي لأتأكد أن كل شيء في مكانه.
كانت هناك علبة سلو، حلوى مغربية تقليدية أحضرتها معي. كنت أنقلها من مكان إلى آخر كلما بدأ الكيس بالتمزق.
شعرت أنني أمام معضلة أخلاقية: هل أتناول "سلو" الذي أنقل معه ذكريات الطفولة أم أتخلص منه وحسب؟ وضعت رأسي على الوسادة، وقررت أن أترك القرار ليوم الغد. كنت متأكدا من شيء واحد، أن قطع الصابون ستعود معي إلى المغرب بكل تأكيد.
وأنا أطفئ الأنوار استعدادا للنوم، جلست للحظة أتأمل: المكسرات، زجاجات الماء الأنيقة، والرسالة الترحيبية، تلك التفاصيل الصغيرة هي من تجعل التجربة دافئة بشكل لا يُنسى.
سمعت ركض طفل في الغرفة المجاورة، كان يجري سباقا مع نفسه، بينما كان أهله يتجادلون حول من ترك الحقيبة في المصعد. ابتسمت وأغلقت عيني. هذه ليست أصوات ضوضاء، بل أصوات حياة.
كنت نائما بهدوء، أحلم بفطور فاخر أو ربما بمكسرات جديدة، عندما رن صوت قوي في الغرفة فجأة.
قفزت من السرير. كنت واثقا أن هذا الاتصال لا يمكن أن يكون إلا لأمر خطير جدا، ربما هو موظف الاستقبال يُخبرني أن هناك حالة طوارئ وأنا آخر الناجين.
رفعت السماعة بسرعة، لكن كل ما سمعته كان صمتا تاما.
جلست وأنا أحاول استيعاب ما حدث. كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا، وقبل أن أعود للنوم، نزعت سماعة الهاتف ووضعتها بعيدا، كي لا أترك أي فرصة لاتصال خاطئ جديد.
عرفت لاحقا أنه لم يكن صوت السماعة، بل: "هذا اختبار صوت الطوارئ في الفندق، شغلناه بالغلط". يضيف موظف الفندق معتذرا.
استيقظت صباحا وأنا لا أعرف كم الساعة بالضبط، لكنني شعرت أن الوقت مناسب جدا للفطور.
ارتديت ساعتي التي اشتريت من المغرب ب 9 يورو. لا يوجد أي شيء مميز فيها، لكنها تعمل. وهذا أكثر ما أحتاجه في الوقت الحالي. حتى لو كنت أعرف تماما أنني سأستعين بهاتفي في أول فرصة للتأكد من الوقت الحقيقي.
خرجت من الغرفة، وركضت حرفيا إلى المصعد، كنت أضغط على زر الطابق الأرضي بكل قوة، كأن ذلك سيجعل المصعد يصل أسرع. عندما وصلت إلى البوفيه، كان هناك فقط بضعة أشخاص قد سبقوني. فتنفست الصعداء.
أخذت طبقا وملأت كل زاوية فيه وكأنني أخشى أن ينتهي الطعام قبل أن أعود للطاولة.
شعرت أنني أنجزت شيئا مهما، رغم أن كل ما فعلته هو تناول وجبة مجانية كانت ضمن سعر الغرفة أساسا.
بعد الإفطار، التقيت بزميل كنت قد رأيت صورته على Basecamp. صادف ذلك طلبي لرحلة عبر Uber، فدعوت الزميل الجديد للانضمام إليّ.
كان السائق ينتظر بصبر أمام باب الفندق، وكأنه معتاد على هذا النوع من الانتظار. أما الشاب اللطيف الذي أصبح زميلي منذ دقائق فقط، فقد صعد لغرفته لإحضار حقيبته.
انتظرت بدوري، شعرت أن هذا اللقاء السريع قد يكون بداية لصداقة جديدة.
عندما وصلنا، وكما يحدث دائما في مواقف مشابهة، لم تعمل بطاقتي البنكية، نظرت للزميل وقلت له بابتسامة مُحرجة: "يبدو أنك ستتكفل بهذا الركوب".
ابتسم ودفع بكل هدوء، بينما رحت أُصر على إعادة المبلغ لاحقا، كأنني أحاول إثبات شيء ما.
في الطريق، وجدت نفسي أفكر:
لماذا الشباب السعوديون دائما بهذا اللطف وهذا الخلق؟
وصلنا قبل بقية المدعوين، الجو كان ماطرا والسماء ملبدة بالغيوم. بدا وكأنه ترحيب رسمي من الطبيعة بحدث "شتاء ثمانية". شعرنا أن الأجواء كانت تتماشى مع روح الحدث. كأن الشتاء قرر أن يكون جزءا من التجربة نفسها.
التقينا مدير المنتجات ريان، وبلطف وكرم منه، أخذنا لجولة في أرجاء الشركة.
كان أكثر ما لفت انتباهنا، نظام خلع الأحذية عند الدخول.
كنا ننتظر أن يظهر طفل صغير بزي مدرسي ويركض في الممر، شعرنا أننا في مسلسل كرتون ياباني.
لم نستطع إلا أن نبتسم.
يبدو أن الأمر ليس مجرد عادة، بل جزءا من ثقافة الاهتمام بالتفاصيل التي تنعكس في كل زوايا الشركة. المكان مرتب ونظيف بطريقة تجعلك تدرك بأنك في بيئة تقدر الراحة والترتيب.
بدأ الحضور يتوافدون، لم أكن بحاجة لتعريف نفسي. تغريد رحبت بي فورا، وكأنها تعرفني منذ مدة. "أهلا نعيم، عرفتك من صورتك" قالت بابتسامة. شعرت أنني جزء من فريق قديم، رغم أنني بالكاد وصلت.
في تلك اللحظة، جاء شخص آخر: "أهلا، اسمي البراء". قالها بدفء كأننا أصدقاء منذ زمن، اكتشفنا أننا نعرف بعضنا بشكل غير مباشر عبر شخص ثالث. بدا الأمر وكأن الجميع هنا مترابط بطريقة ما، وأنا الحلقة الجديدة التي تحاول الدخول في هذه السلسلة الاجتماعية.
أثناء استغراقي في هذه اللحظة الدافئة، قررت أن أملأ كوب قهوة قبل العودة لطاولتي، لكن، وبطبيعة الحال، سكبت نصف الكوب قبل أن أصل.
نظرت حولي، لا أحد لاحظ، أو على الأقل هذا ما أقنعت به نفسي.
كلما رفعت رأسي، أجد وجوها جديدة تتجول في المكان.
لكن تغريد كانت دائما بالمرصاد:
"نعيم، لو سمحت لا تغلق الممر".
ابتعدت بكل هدوء لأنني أعلم جيدا أن النقاش مع تغريد قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة.
بدأت ألتقي بالأشخاص الذين كنت أراهم فقط من خلال شاشة Basecamp. الوجوه التي اعتدت على رؤيتها بأبعاد صغيرة في زوايا الاجتماعات الافتراضية أصبحت الآن حقيقية وثلاثية الأبعاد.
وسط هذه اللقاءات، ظهرت لعبة جديدة.
لعبة بسيطة تعتمد على جمع توقيعات من أشخاص يحققون شروطا معينة.
"شخص لا يشرب القهوة أو الشاي".
وقفت للحظة أفكر: "هل هذا الشخص موجود فعلا؟"
لكن الغريب أنني وجدته، وسارع بالتوقيع على ورقتي.
التوقيعات استمرت، ومعها استمرت ضحكات كثيرة.
الخانة الأولى كانت تطلب شيئا أجيده، نظرت إلى الورقة، وبسرعة اخترت "أجيد الطبخ".
ليس لأنني طاه محترف، ولكن لأنه لا أحد سيطلب مني تحضير طبق في منتصف القاعة. الجميع يطبخ بدرجة ما، حتى وإن كانت الوجبة عبارة عن بيض مقلي.
الخيار الآخر الذي كنت أضعه أحيانا كان: "كتابة قصص مصورة للأطفال".
صحيح أنني أكتب من حين لآخر، لكنني لم أجد بعد رساما ليحول تلك القصص إلى شيء مصوّر. لذا، كانت الإجابة أقرب إلى طموح مستقبلي أكثر من كونها واقعا.
أما باقي الخيارات؟ فكانت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.
شخص لا يحب الشوكولاتة.
شخص لا يحب اللحم.
شعرت أن هذه الخيارات قد وضعت خصيصا لإقصائنا مبكرا من المسابقة. من كتب الأسئلة لم يكن ينوي أن يفوز أحد في النهاية.
بينما كان المدعوون منهمكون بالحديث وتكوين علاقات جديدة، كنت أتجول بين طاولات الطعام، أتنقل من طبق إلى آخر.
مررت على طاولة المقبلات، ثم الحلويات، ثم عدت للمقبلات مرة أخرى.
وأثناء تلك الجولة، صادفت الزميل الذي سدد رحلة Uber مجددا. كان يتحدث مع شخص آخر، وعندما رآني ابتسم.
لكنني، شعرت بالحاجة لإعادة فتح الموضوع. اقتربت وقلت له: "مرحبا سأعيد المال بعد قليل".
نظر إليّ ضاحكا: "لقد نسيت الموضوع من أساسه".
هززت رأسي، لكنني من الداخل كنت مقتنعا أنني لن أرتاح حتى أعيده في أقرب وقت.
خلال اللقاء، كنت أحرص على التحدث باللغة العربية مع كل شخص ألتقي به.
التفتُّ لأرى من يقف بجانبي، فكان مدير الشركة.
حاولت أن أبدو مرتاحا، رغم أنني كنت أفكر في شيء أقوله لكسر التوتر. نظرت إلى الطاولة أمامي وقلت له:
"هل تود تجربة هذه الحلوى، إنها لذيذة".
ابتسم ساخرا: "جيد أن هناك شيء لذيذ في هذه القاعة".
وبعد دقائق، بينما كان يغادر المكان، توقف للحظة، أخذ قطعة إضافية وأضاف: "شكرا، هي لذيذة فعلا".
بدأت أسلم على كل من ألتقيه، وكان هناك أمر واحد واضح، الأسماء تتبخر من ذاكرتي بعد ثوان.
لم أكن متأكدا إن كان ذلك بسبب قلة النوم أو أنني أصبت بنوع من فقدان الذاكرة القصير الأمد. المشكلة أن الجميع يتوقع منك أن تتذكر أسماءهم.
عدا محمد وأحمد، بقية الأسماء مثل نواف، زياد، وريان كانت أسماء نادرة في محيطي. شعرت وكأني أسمعها لأول مرة.
عندما ناداني شخص قائلا: "هل تتذكر اسمي؟". ابتسمت بكل ثقة وقلت: "أكيد".
ثم غيرت الموضوع بسرعة، لأنني لم أكن أريد اختبار ذاكرتي الهشة.
أخيرا دخلنا القاعة، الجو كان هادئا، وكأن الجميع ينتظر شيئا لا نعرفه بعد.
كان هناك شخص يتحرك بصمت، يحمل القهوة والشاي، يتنقل بخفة بين الحضور، يملأ الكؤوس ويعيد الابتسامة للجميع.
عندما صعدت المتحدثة أخيرا، كان الجميع ينتظر جملة ملهمة أو درسا عن القيادة والنجاح. لكنها قالت: "الجميع هنا يريد أن يكون البطل، لكن البطل الحقيقي هو كمال".
في تلك اللحظة، ساد صمت قصير، ثم التف الجميع إلى كمال الذي وقف هناك متفاجئا، مبتسما بخجل.
وسط كل النقاشات والخطابات التي ملأت القاعة، كان آخر من تحدث هو المدير. الجميع كان يتوقع أن يبدأ، كما هي العادة في معظم الشركات، لكن يبدو أن هذا اليوم كان مختلفا حتى في ترتيب الكلمات.
عندما وقف أخيرا، تحدث ببساطة وهدوء، لكنه لمس شيئا في الجميع.
تحدث عن السبب الحقيقي وراء ما تفعله الشركة كل يوم. قال إن المحتوى ليس مجرد نصوص تُكتب أو فيديوهات تُنتج، "بل هو ما يربطنا بالناس، وما يجعل لكل فكرة صوتا يمكن أن يصل ويُحدث فرقا".
بدا أن ما قاله تلخيص لمهمة الشركة، لكنه كان أكثر من ذلك، كان تذكيرا لسبب وجودنا جميعا هناك ذلك اليوم.
بعد جلسات العمل والكلمات الرسمية، جاء وقت الطعام. الجميع قرر في تلك اللحظة أن الطعام هو الوسيلة الأسرع لتوثيق العلاقات.
جلسنا حول الطاولات، نتشارك الأطباق، كل شخص يأخذ قطعة، ثم يُمرر الطبق لغيره، بلا تكلف أو حواجز.
كانت فرصة لفتح أحاديث جانبية، أحدهم بدأ يتحدث عن رحلته الأخيرة، وآخر شارك قصة مضحكة عن زميل له.
وبينما كنا نتحدث، كان هناك دائما شخص يقف ليوثق اللحظة. لا أعرف إن كنا سنبدو جادين في الصور، لكنني متأكد أن بعضها سيحمل الكثير من تلك الابتسامات العفوية.
بعد كل تلك الأطباق التي تذوقتها في البوفيه، شعرت أنني قد بالغت قليلا. الطعام كان شهيا لدرجة أنني لم أستطع التوقف. مع مرور الوقت، بدأ المغص يتسلل بهدوء، بدا واضحا أنه ليس مجرد شعور مؤقت بالتخمة.
نظرت حولي محاولا التصرف بشكل طبيعي، ثم أدركت أنني بحاجة إلى خطة للانسحاب التكتيكي.
اضطررت إلى العودة للفندق سريعا قبل أن تتطور الأمور.
طلبت أوبر مجددا، وفي الطريق، اكتشفت مشكلة جديدة، لم يكن معي مال كاف والبطاقة لا تزال لا تعمل لسبب أجهله، أدركت أنني في موقف لا أحسد عليه.
وقبل أن أبدأ في البحث عن حلول ما، التفت إليّ الكابتن صالح الذي كان يقلني، وقال بابتسامة هادئة:
"لا تشيل هم الفلوس، احنا نخدمك".
توقفت للحظة وأنا أسمع كلماته، شعرت بالامتنان. لكنني أصريت على الدفع، عندما وصلنا، طلبت المال من موظف الفندق، واعدا إياه بأني سأعيده حالما أصلح بطاقتي البنكية.
في النهاية، لم يكن الأمر عن المال، بل عن تلك اللحظة التي شعرت فيها أنني بين إخوة وأصدقاء، حتى وإن كنت بعيدا عن وطني.
المغص اختفى وكأن شيئا لم يكن، لكن الوقت أصبح متأخرا جدا للعودة. جلست على السرير ونظرت إلى الساعة، تذكرت أنني لم أنم منذ الأمس، لذا قررت الاستسلام وأن أترك كل شيء للغد.
في الغد، كنت بحاجة لشاحن جديد، فقررت أن أذهب لشراء واحد، قبل العودة إلى مقر الشركة.
أردت أن أجرب الميترو لأنه كان قريبا من الفندق. دفعت ثمن الدرجة الاقتصادية، لكنني وجدت نفسي أجلس في الدرجة الأولى. لا أحد اعترض، فقررت أن أتعامل مع الموقف وكأنه جزء من التجربة: "إذا لم يُطالبني أحد بالرجوع، سأبقى هنا وأستمتع بالمقعد الواسع".
أحد الركاب، من الواضح أنه من العمالة الآسيوية، جلس تماما أمام النافذة الكبيرة، تلك التي تطل على مركز الملك عبد الله المالي، جلس بطريقة تحجب الرؤية عن الجميع.
رأيت البعض يحاول التحرك والتقاط صور جانبية، لكن جسم الشاب كان بارزا في كل صورة.
توقف المترو وفُتح الباب، وقبل أن يصعد، سألني أحدهم: "المترو ذا، طريقه على النسيم؟".
ورغم أنني بالكاد أعرف مسار الرحلة، إلا أنني أجبت بثقة: "نعم سيدي، بكل تأكيد".
مرة أخرى، وجدت نفسي أستخدم اللغة العربية الفصحى، لا أعرف لماذا، لكنها تصبح خياري التلقائي في الأماكن العامة، وكأنني مراسل ميداني في قناة للأخبار.
ابتسم الرجل وصعد.
أما أنا، فقد جلست أفكر في أنني قد أحتاج إلى النزول في أقرب محطة، خوفا أن أكون قد أرسلته إلى جهة غير معروفة.
استمر المترو في التحرك، بدأت أشعر أنني أبتعد عن الرياض نفسها. نظرت من النافذة، فرأيت مناطق لم أرها في أي خريطة من قبل.
للرحلة بقية ..
