الطريق إلى ثمانية

لم أكن أبحث عن وظيفة جديدة حين بدأت القصة.

كنت فقط أتابع ثمانية كما يتابع الناس الممثلين المفضلين لديهم، دون أن يحلموا بأن يصعدوا يوما على الخشبة نفسها.

في المشهد العربي الصاخب بالمشاريع والوعود آنذاك، بدت ثمانية كاستراحة هادئة على الطريق. كل شيء فيها بدا سلسا ومألوفا، لكن خلف الشاشة، كان هناك ضوء صغير يحاول أن يقول شيئا أكبر من الصورة.

البدايات البعيدة

قبل أن أتعرف على ثمانية، كنت مهووسا بشركة 37signals، إذ كانت مدرسة فكرية بالنسبة لي. أجريت مقابلات مع مؤسسيها، في زمن كانت "ثقافة الشركة" شيء جديد في بيئتنا العربية، وقرأت كتبهم كما يقرأ الموسيقيون النوتة التي يريدون عزفها في حفلة العمر.

ذلك الإعجاب لم يكن عابرا، وحين اكتشفت أن ثمانية تستلهم أفكارا ونواميس منهم، شعرت وكأن القدر يصفق من بعيد هامسا لي: "لقد وصلتَ متأخرا إلى الحفل..لكن لا بأس".

أول رسالة لعلي

كان عندي رقم علي بوصالح على تيليغرام، احتفظت به كما تحتفظ الممثلات الصاعدات ببطاقة مخرج شهير. لا أذكر من أين حصلت عليه، ربما من مدونته القديمة عن بايثون ومواضيع البرمجة المبكرة.

راسلته أكثر من مرة أسأل عن الشواغر، وكنت دائما أجد أن باب التوظيف قد أُغلق، أو أن الإعلان قد اختفى حين وصلت.

الرسالة الرابعة

مرت السنوات. وفي أحد المساءات، ودون سبب واضح، فتحت بريدي، وكتبت لعلي من جديد.

لم أكن واثقا أنه سيتذكرني، لكن رده جاء سريعا، لا مفاجأة، لا دراما، فقط نبرة شخص رأى هذا الفيلم من قبل ويعرف تماما كيف سينتهي.

"مرحبا نعيم، هذه رابع مرة تراسلني فيها، ليس لدينا شواغر حاليا، لكن دعنا نحدد موعدا ونرى فرص التعاون الممكنة". ثم أرفق لي رابطا لتحديد لقاء لنصف ساعة.

فكرت أن هذه ال30 دقيقة قد تغيّر مصيري، وقد تمر كأي اجتماع آخر في جدول علي المزدحم. 

لم أكن أعرف أي الاحتمالين أرجِّح، لكني قررت أن أتعامل مع الأمر كما يتعامل الناس مع المعجزات الصغيرة، رتّبت شعري، فتحت الكاميرا قبل الموعد، وجلست مبتسما لشاشة الحاسوب.

البروفة هي السيرة الذاتية

كنت قررت أن لا أحضر اللقاء خالي اليدين. فأعدت كتابة وتصميم بعض الصفحات لمنصة ثمانية، أرفقت الرابط وكتبت: "هكذا أرى ثمانية، لو كانت انعكاسا لما أشعر به".

انتهى اللقاء، وبعد يومين، وصلتني رسالة تقول: "الفريق سيتواصل معك نهاية الأسبوع".

نافذة غيرت المشهد

بعد أيام، ظهر اسم جديد في بريدي: ريان.

لم تكن رسالة ريان باردة أو محايدة كما يحدث عادة في المراسلات الأولى، كان فيها ما يكفي من الود ليبدو الأمر أشبه بامتداد لحوار بدأ قبل أن نلتقي.

وكان ذلك حقيقيا بما يكفي لأجعله جزءا من القصة.

أرسل لي نموذجا أوليّا لمنصة ثمانية: تجربة الكتابة، النشر، والواجهة التي سينتقل إليها الكتّاب قريبا.

وقال ببساطة:

"جرّبها بنفسك".

كانت المقابلة أقرب إلى حديث طويل عن صناعة المنتجات، تجربة المستخدم، الكتابة في العصر الرقمي، وعن كل ما يجعل التكنولوجيا تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

تكلمنا عن الأدوات التي رافقتني لسنوات، تلك التي تنقذك اليوم ثم تخونك في الغذ الموالي. وفي لحظة ما، بدا وكأننا نتحدث عن الحياة والعلاقات أكثر مما نتحدث عن التقنية.

في نهاية الأسبوع الموالي، وصلتني رسالة جديدة "ستبدأ معنا في ديسمبر".

ديسمبر: البداية التي حلمت بها

بدأت يومي الأول بفضيحة قانونية في قلب مؤسسة إعلامية. إذ اكتشفت أن رمز الحقوق في الفوتر (ذيل الموقع ©) لم يكن رمز الحقوق الأصلي، وإنما مجرد زخرفة جمالية. من الناحية القانونية، يمكن لأي أحد نسخ كل شيء، ومن الناحية الواقعية، لن يلاحظ ذلك أحد، ضحكت، لأنني أخذت المسألة بجدّية أكثر مما تستحق. 

الأسابيع الأولى تحولت إلى تدقيق شامل: ثغرات أمنية، مشاكل واجهات أمامية، تفاصيل منسية. وما بدأ كملاحظة بسيطة، تحوّل لاحقا إلى مشروع كامل على Basecamp عملنا عليه لدورة كاملة.

كانت فترة مليئة بالتجربة والاكتشاف، ولا أعرف إن كان المشروع هو الأجمل، أم أن روح الفريق التي كانت تملأ تلك الأيام هي ما جعلتها تبقى دافئة في الذاكرة.

شتاء ثمانية

بعد أسابيع قليلة، وصلتني دعوة: "احزم أمتعتك، أنت مدعو لشتاء ثمانية".

حملت حقيبتي الصغيرة وسافرت، كنت أعرف أن الدور لن يكون كبيرا، لكنني كنت مؤمنا أن الظهور الأول لا يُنسى. وهناك، التقيت علي أخيرا.

كانت الأصوات تنادي عليه من كل اتجاه، والكل يريد منه شيئا ما. وكان لديه تلك القدرة النادرة على أن يصغي حتى تنتهي، دون استعجال، ودون أن يفقد اهتمامه في منتصف الجملة.

الجزء العاقل في داخلي، والذي تظاهر طويلا بأنه غير مهتم، بدأ يصفّق بهدوء، ثم قلت لنفسي ساخرا: "حسنا، لقد استغرق الأمر بضع سنوات لتصل إلى هذا المشهد".

بعد ذلك بأيام، كتبت عن رحلتي إلى شتاء ثمانية.

كنت أظنها قصة عادية، أو تجربة أداء ستحذف لاحقا من المونتاج، لكنها لاقت ما يشبه استحسان النقاد، ابتسمت في سرّي وفكرت أنني ربما لم أصنع فيلما بعد، لكنني يبدو أنني حصلت على مشهدي الأول في السينما.

التمديد والمقابلة الثالثة

بعد موسم السفر والاجتماعات، صار التقاط الأنفاس هو المهمة الرسمية الوحيدة التي اتفق عليها الجميع. وسط هذا المزاج الرمادي، وصل الخبر بتمديد التجربة لشهر آخر. لم أحتج تفسيرا، فقد بدا الأمر منطقيا جدا، إذ لا أحد يتخذ قرارات كبيرة بينما لا يزال يحاول تذكّر كلمة السر لحياته.

خلال نفس الفترة أجريت مقابلة مع أبو كريم، كان اللقاء أطول مما توقعت، أسئلة تتسلل إلى الزوايا التي لا تتطرق إليها المقابلات عادة: كيف تميّز بين الخلاف البنّاء والمعارضة الشخصية؟ كيف تحافظ على ثقة الفريق في أوقات عدم الوضوح؟ ما القيمة التي لا تساوم عليها مهما كانت الضغوط؟ كجودة المخرجات وغيرها ..  

 انتهى اللقاء، لكن صدى الأسئلة بقي يتردد في داخلي، ثم في لحظة صدق نادرة، شعرت أنني لا أحتاج وظيفة، بل خطة جديدة لحياتي.

العقد الذي وقّعه القلب أولا

بعد أسابيع، وصلتني الرسالة المنتظرة: عرض العمل من ثمانية. لم أحتج إلى وقت كثير للتفكير. كتبت الرد فورا: "موافق".

كان قلبي يسبقني بخطوة. وكانت نهاية رحلة طويلة من الانتظار، وبداية حكاية كنت أكتبها منذ سنوات دون أن أدري.

ثمانية كما أراها اليوم

اليوم، حين أفتح الحاسوب، أشعر أن أعظم ما تعلمته هنا أن العمل لا يحتاج إلى خلفية موسيقية صاخبة ليبدو مهما.

الإنجاز الحقيقي يحدث في اللحظات التي لا يلاحظها أحد، حين ينهمك الجميع في عمل يبدو أنه بلا بطولة… لكنه يُغير كل شيء. اليوم، وفي كل مرة يمر فيها اسمي في بريد الشركة، أتذكر تلك الليلة التي أرسلت فيها لعلي رسالة رابعة، وكانت كافية لتغيّر الاتجاه قليلا، بالقدر الذي يحتاجه الحلم ليصبح حقيقة.

 

وربما بعض الطرق تحتاج أن نعود إليها أكثر من مرة، فقط لنتأكد أنها كانت طريقنا منذ البداية.

انتهى.

شركة ثمانيةثمانيةقصةشخصي
مدونة نعيم
مدونة نعيم

ممم